ضرب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، عرض الحائط بالإنتقادات حول إعلانه ترخيص ثلاثة آلاف وحدة سكنية استيطانية جديدة. كما أعلنت حكومته وقف تحويل عائدات الضرائب الفلسطينية للشهر الجاري، وهو أمر ليس بالجديد على الحكومات الإسرائيلية حيث قامت سلطات الإحتلال بهذه الخطوة في الماضي. ولكن هناك عدة أمور مثيرة في الموقف الإسرائيلي ومواقف الدول الحليفة، سنتطرق لأهمها في هذا المقال، وخاصة في ظل كون الخطوة الفلسطينية خطوة ”رمزية“.
كان هذا النجاح الرمزي، الذي حققه الفلسطينيون، قد ترك لدى الكثيرين منهم طعم الحلو الممزوج بالمرّ، وذلك على الرغم من فرحتهم بهذا الإعتراف الذي يتضمن الإعتراف بفلسطين كدولة، حتى وإن كانت غير كاملة العضوية. طعم الحَلْوى المرّة هذا، يأتي في ظل وجود الكثير من المواضيع المفصلية لم تضع السلطة خططاً واضحة بشأنها. ومن ضمنها قضايا اللاجئين وحق العودة ووضع فلسطينيي الداخل والوضع في غزة والمصالحة الفلسطينية والقدس. وطبعاً هذا الإعتراف لم ينه الإحتلال. ومن سخرية القدر أن يعبّر الطرف الإسرائيلي عن ذلك على لسان ممثل للحكومة الأسرائيلية في تصريحات لمحطات التلفزة والإعلام مراراً وتكراراً في قوله “ما الذي سيستفيده الفلسطينيون من هذه الخطوة، فهم سيستيقظون في الصباح التالي ليجدوا أن كل شيء من حولهم بقي كما هو...“.
في الواقع لم يتحدث أحدٌ من الجانب الفلسطيني عن أن خطوة من هذا النوع ستؤدي في الصباح التالي إلى نهاية الإحتلال، بل إن الجانب الفلسطيني ظل يؤكد طوال الوقت على رمزية هذه الخطوة. إذاً لماذا هذا الهوس الإسرائيلي من أجل نفي أي أهمية لهذه الخطوة من ناحية والعمل على وقفها بكل طريقة ممكنة؟ تارة بضغط حلفاء اسرائيل، كالولايات المتحدة وبريطانيا على الفلسطينيين، وتارة بالتهديد المباشر بعدم تحويل عائدات الضرائب وتوسيع الإستيطان. وقامت اسرائيل بتنفيذ الأمرين على الفور، كما أسلفنا الذكر.
ما أثار حفيظة الإسرائيليين هو التصويت داخل الإتحاد الأوربي. فالدول الفاعلة هناك إما أيدت أو إمتنعت عن التصويت. فرنسا وإسبانيا أيدتا المشروع، أما ألمانيا وبريطانيا، وهما من أهم حلفاء اسرائيل داخل الإتحاد الأوربي فامتنعتا عن التصويت. ومن أصل 27 دولة في الإتحاد الأوربي أيدت القرار 17 دولة، وهذا نصر دبلوماسي فلسطيني لا يستهان به على المستوى الأوربي.
رفع الفلسطينيون مستوى تمثيلهم في الجمعية العامة في الأمم المتحدة من ”كيان“ إلى دولة، وإن كانت مراقبة فقط. ولعل هذا القرار يعيد إلى الأذهان قراراً آخر جاء في مرحلة مفصلية أخرى من التاريخ الفلسطيني الحديث بعد النكبة وهو القرار رقم 3236، الذي اتخذ في 22 من كانون الثاني/نوفمبر عام 1974. حيث تم الإعتراف ضمناً في حينه بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل للشعب الفلسطيني وكانت تلك هي المرة الأولى التي تحصل بها حركة تحرير على إعتراف بهذا المستوى. حمل القرار عنوان“قرار حقوق الشعب الفلسطيني“ والذي كان أحدالأساس التي تنطلق منها قرارات الجمعية العامة، وخاصة حق تقرير المصير.
لكن تبعات الإعتراف بفلسطين كدولة مراقبة لا تقف عند حد التهديدات الإسرائيلية. فالتهديد الأمريكي، ليس فقط فيما يتعلق بالمعونات الأمريكية للفلسطينيين، والتي تصل إلى حوالي نصف مليار دولار بالسنة، وإغلاق مكتب ممثلية المنظمة في واشنطن، بل أيضاً تضمن تهديداً بوقف الدعم لمؤسسات الأمم المتحدة التي يمكن للفلسطينيين الإنضمام إليها. هذا التهديد بقطع المعونات جاء على لسان اعضاء في الكونغرس الأمريكي، الذي يصوت على هذه الميزانيات المختلفة، وبالتالي فإن هذا التهديد يطول كذلك كل من يدعم الفلسطينيين بشكل قانوني أي مؤسسات الأمم المتحدة. حيث سيكون من حق الفلسطينيين الإنضمام للكثير من مؤسسات الأمم المتحدة، بموجب قرار الجمعية العامة الأخير والإعتراف بفلسطين كدولة مراقبة. وهذا التهديد يتبلور في إمكانية تجميد الكونغريس للدعم المادي لمؤسسات الأمم المتحدة المختلفة على غرار تجميد الولايات المتحدة دعمها لمنظمة التربية والتعليم والثقافة ”يونسكو“ بسبب منحها فلسطين العضوية الكاملة بالمنظمة عام 2011. وكانت الولايات المتحدة تمول 22 بالمئة من ميزانية اليونسكو، أي ما يفوق الـ 100 مليون دولار سنوياً.
يفتح هذا الإعتراف الطريق أمام عدة قضايا إضافية مهمة، أولاها دعوات قضائية ضد الإحتلال في محكمة الجنايات الدولية، كونها جزء من وكالات الأمم المتحدة التي يستطيع الفلسطينون بناءً على هذا الإعتراف، طلب الإنضام إليها. وربما المحاولات التي قامت بها بريطانيا قبل التصويت، تدل على أهمية هذه الخطوة. فبريطانيا، التي عارضت الخطوة إشترطت لموافقتها تعهداً من الجانب الفلسطيني أن لا يرفع دعوات قضائية ضد إسرائيل على جرائم حرب في محكمة الجنايات الدولية. هذا الشرط الذي لم يوافق عليه الجانب الفلسطيني، يدل على قلق إسرائيل وحلفائها من هذه الخطوة.
الحلوى المرة هي أن هذا القرار يترك الكثير من الأمور عالقة ومفتوحة وتبعاته على مستوى الدبلوماسية يمكن أن تزيد الخناق على الفلسطينيين لذلك توجب على السلطة الفلسطينية أن تنهج نهجاً ديمقراطياً في قرارها وأن لا تترك الكثير من الأمور عالقة دون توضيح ومن ضمنها الأتي:
1. مسألة الإنقسام:
يبدو أن كلاً من الطرفين، حماس والسلطة، قد بدأ بعد سبع سنوات من الإقتتال والتمزق بأخذ خطوات جدية من أجل المصالحة. فلقد سمحت حماس أمس الإثنين بعودة ١٢ ناشطاً من فتح إلى غزة عن طريق رفح بعد الإقتتال الذي حل وأدى إلى إنقسام قبل ست سنوات. في إنتظار أن تبادل هذه الخطوة بأخرى مشابهة والإفراج عن معتقليين سياسيين لدى السلطة من كوادر حماس. ”الشعب يريد إنهاء الإنقسام“ هذا ما هتفت به الحناجر التي إستقبلت عباس برام الله، وعلى الأطراف الإستجابة لها قبل أن يكون ذلك متأخر. مؤشر آخر على قرب التوصل لمصالحة فعلية هو دعم حماس لخطوة السلطة في التوجه للجمعية العامة، إضافة إلى وجوب إجراء إنتخابات تشريعة.
2. قضية اللاجئين
على القيادة الفلسطينية أن تتداول مسألة الاجئين بشفافية أكبر ولا يمكنها إتخاذ أي قرار في هذا الشأن دون العودة لإصحابه من الفلسطينيين، أي اللاجئين أنفسهم. كما أن من الأفضل الاعتناء برعاية أوضاع اللاجئين بصورة أفضل ولعل رفع التمثيل كدولة سيتيح ربما لبعض ”السفارات“ الفلسطينية وعلى رأسها سفارة فلسطين في لبنان، من تسهيل بعض الأمور الإدارية على اللاجئين المتعلقة بأوراق سفر أو غيرها. دون أن تكون هذه الآمال بساذجة.
3. حل الدولتين
تضمنت مسألة الإعتراف بفلسطين كدولة غير عضو، الإعتراف والقبول بحل الدولتين على حدود الأراضي المحتلة عام 67. لكن هذا الحل، على الأقل بصيغته المطروحة، يستثني بصورة ما أمرين، اللاجئين المهجرين في النكبة وإمكانية عودتهم إلى ديارهم وكذلك مسألة فلسطينيي الـ 48 حاملي الجوازات الإسرائيلية ومدى أمكانيات إستقلالهم الثقافي وما إلى ذلك من حلول طرحت. والطرفان، اللاجئون والباقون، متروكان لوحدهما في مهب الريح. وعلى القيادة الفلسطينية أن تقوم برعايتهم والتعامل مع أمورهم بصورة أكثر فعالة وعميقة من مجرد الشعارات الرنانة ”كأهلنا الباقون في فلسطين“...وما إلى ذلك. ولعل سرطان المستوطنات إن إستمر على حاله لن يتيح إلا قيام دولة واحدة ثنائية القومية ولذلك توجب ربما أخذ هذه الإمكانية بالحسبان.
تواجه الفلسطينيين أكثر من أي وقت مضى تحديات لا يمكن الخروج منها بسلامة دون تقوية شوكة الصمود. هذا الصمود الذي لا يمكن الإستمرار به دون قيادة حكيمة وموحّدة، سيعاقبها الفلسطينيون إن إستمرت في وضع رأسها في الرمل كالنعام، خصوصاً بعد التنازلات المشينة التي قدمتها منذ أوسلو وأخطاؤها الاستراتيجية. فالتبعية الإقتصادية والفساد ومعدل المديونية للفرد الذي ارتفع في السنوات الأخيرة بسبب السياسات الإقتصادية المعتمدة والوضع في غزة والجدار وإغراق السوق الفلسطينية بالبضائع الإسرائيلية وحرية الرأي تحت حكم السلطة وغيرها من الأمور التي على محمود عباس معالجتها كي تقوي شوكة الفلسطينيين كي يستمر الصمود بالصمود. الصمود فعل مقاومة وهذا ما يحتاجه الفلسطينيون الآن أكثر من ذي قبل. ولعل هذه هي الفرصة الأخيرة لمحمود عباس كي يصلح مساراً أعوج اتخذته سلطته تحت الإحتلال، لأن عواقب ذلك ستكون انتفاضة فلسطينية جديدة ضد الإحتلال وضد السلطة التي تتعاون معه. لا يمكن التقليل من الأهمية الرمزية للحدث لكنه لا يغير من الحقيقة المرّة على الأرض وهي استمرار المشروع الاستيطاني والاحتلال الإسرائيلي وتمزيق المجتمع الفلسطيني اقتصاديّاً وسياسياً وخنق الفلسطينيين ومحاولة الإستمرار في عزلهم وتهميش قضيتهم.